قصة مولد عيسى عليه السلام
بعث الله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل نبياً ورسولاً، وقامت رسالته على توحيد الله وإفراد الألوهية والربوبية، ودعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده، ومطالبتهم بالإيمان بأنه عبد الله ورسوله، وأنه ابن مريم، فهو رسول بشر عليه الصلاة والسلام، لم يكن قدومه-عليه السلام- قدوماً طبيعياً البته، بل تم بشكلٍ لم تعهده البشريَّة قط، وظلَّ أمراً فريداً، ولم ينل ذلك الشَّرف إنسان قبله ولا بعده، وفيما يأتي بيان لهذه القصة العظيمة:
قصة حمل مريم بعيسى عليه السلام
كانت مريم الصِّديقة تقييم في محرابها للتعبد داخل مسجد، وكانت إذا حاضت ذهبت إلى بيت خالتها حتى تطهر ثمّ تعود إلى المسجد لتتمّ عبادتها، إلا أنها ذات مرة ذهبت لمكانٍ بعيدٍ باتجاه شرق الدار للاغتسال فوضعت ساتراً واغتسلت، وما أن إنتهت وارتدت ملابسها حتى أتى جبريل -عليه السلام- إليها على هيئة رجلٍ سويِّ الخَلق لكي لا تفزع منه وتستطيع مخاطبته. وقد جاء ذلك في قوله -تعالى-: (وَاذكُر فِي الكِتابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَت مِن أَهلِها مَكانًا شَرقِيًّا* فَاتَّخَذَت مِن دونِهِم حِجابًا فَأَرسَلنا إِلَيها روحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا)، وعندما رأته فزعت وأخذت تذكر له الله -تعالى- وأن يتَّقيه لتردَّ شرَّه عنها، فهدَّأَ من روعها وأخبرها أنَّه مَلَكٌ من عند الله، وبشرها بغلامٍ، وأنَّ هذا أمرُ الله وقد قُضِي.قال -تعالى-: (قالَت إِنّي أَعوذُ بِالرَّحمـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنا رَسولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا)، وها هي التَّقيَّة الورعة التي حفظت فرجها من الحرام، أرسل الله -تعالى- لها جبريل لينفخ في جيب قميصها ليصل رحمها وتحمِلُ به بإذن ربِّها ويكونا آيةً خالدةً للعالمين، قال- تبارك وتعالى-:(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ). أمَّا عن كيفيَّة الحمل؛ فهذا أمرٌ من الغيبيات التي لم يذكرها الوحي، وحتى السَّلَف الصَالح توقَّف عندها، وآمن بها المسلمون دون البحث بالتَّفصيل باعتباره أمراً غيبيَّاً، قال-عز وجل-:(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ). كانت مريم العابدة الناسكة مثالاً على الطهارة والعفَّة، وشاء الله -تعالى- أن تنال أجر الدنيا والآخرة، ورفع الله -تبارك وتعالى- من قدرها بتأييدها بمعجزةٍ فريدةٍ لم تحدث قبلها ولا بعدها، وفي ذلك أيضاً دلالةً جليَّةً على قدرة الخالق في كلِّ ما هو خارقٌ للعادة، وقد كان في ذلك آيةً لقومٍ ضلوا عن السبيل.
قصة ولادة عيسى عليه السلام
عندما بدأت تشعر السيدة مريم بآلام المخاض استندت إلى نخلةٍ، وفي الحال لمع في ذهنها لوم النَّاس لها واتِّهامها في عفَّتها ودينها، فقالت: يا ليتني متُّ قبل هذا الحال، قال -تعالى-:(فَأَجاءَهَا المَخاضُ إِلى جِذعِ النَّخلَةِ قالَت يا لَيتَني مِتُّ قَبلَ هـذا وَكُنتُ نَسيًا مَنسِيًّا* فَناداها مِن تَحتِها أَلّا تَحزَني قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيًّا). ومن ثمَّّ ولدت عيسى-عليه السلام- فأتاها صوتٌ من تحتها -صوت عيسى عليه السلام بحسب قول ابن كثير وغيره- لاتحزني وكلي من الرُّطب واشربي من النَّهر لتقرَّ عينكِ، كما أُمِرت بالامتناع عن الكلام مع النَّاس لكي يُترك الأمرلابنها بالرَّد عليهم، كي يمنع الحرج عن أمِّه وتتحقَّق المعجزة. وكان عليها أن تقول لكل من تلاقيه إني نذرت للرَّحمن صوماً عن الكلام، وكان هذا الصِّيام مشروعاً لديهم ونسخ في شرعنا، قال-عزَّ وجل-: (فَكُلي وَاشرَبي وَقَرّي عَينًا فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمـنِ صَومًا فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا). لم يكن من السهل تخيل الصراع النفسي المرافق لآلآم المخاض الذي كان يدور في نفس السيدة مريم، خاصة عند تخيل لوم قومها لها والتشكيك في دينها وخلقها، لاسيما أنَّها من بيتٍ طاهرٍ نقيٍ ورع.
قصة نبوة عيسى عليه السلام
ودعوته كانت رسالة عيسى-عليه السلام- امتداداً لرسالة موسى-عليه السلام- موجهة إلى بني إسرائيل خاصة، ولم تتحوَّل للعالميَّة إلَّا في وقتٍ متأخِّر على يد الإمبرطور قسطنطين وبولس، وجاءت رسالته تحمل مبادئ التوحيد ورفض الشرك، قال -تعالى-:(وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، إذن كان عيسى موحِّداً على دين الإسلام وعلى ملَّة أبينا إبراهيم حنيفاً، لم يدَّعِ اللأُوهيَّة قط، وما كان إلَّا كباقي الرُّسل صاحب رسالةٍ وعليه إبلاغها شأنه شأن الرُّسل. وقد بيَّن الله-عزَّ وجل- أنَّ عيسى-عليه السلام- من أولي العزم في القرآن الكريم، وهو نبيٌّ ورسولٌ كريم، فهو كأيِّ رسولٍ لديه مهمَّة البلاغ والدَّعوة لعبادة الله وتوحيده، قال -تعالى-: (قالَ إِنّي عَبدُ اللَّـهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا)، وكان متوجهاً لقومه بني اسرائيل الذي طغوا وابتعدوا عن شريعة موسى-عليه السلام- أمَّا دلالة نبوَّته من الإنجيل نفسه فهي: "ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة من هذا فقالت: الجموع هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل"، وأيضاً: "ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم، وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي" أيَّد الله -تعالى- نبيَّه عيسى بعددٍ من المعجزات مثل؛ إبراء الأكمه والأبرص، النَّفخ في الطين كهيئة طير فيصبح طيراً بإذن الله تعالى، إحياء الموتى والإخبار بما يدَّخر النَّاس في البيوت، بدليل قوله -تعالى-: (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). بالإضافة إلى هذه المعجزات فقد كانت أيضاً إحدى معجزاته المائدة التي نزلت من السماء له-عليه السلام- وللحواريين لكي تكون بمثابة عيد للأولهم وآخرهم، قال -تعالى-: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّـهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). قضى الله -تعالى- بحكمته بتأييد عيسى -عليه السلام- بالعديد من المعجزات، من بداية الخلق وحتى الرَّفع للسماء، لتلين القلوب المقفلة فكانت له -عليه السلام- معجزة القدوم للدنيا والنطق بالمهد، وشفاء المرض بإذن الله، والإحياء ونفخ الروح وكله بإذن الله تعالى، وكل هذه المعجزات لم تكن أسباب كافية لدى بني إسرائيل للإيمان والرجوع إلى الله تعالى.
قصة رفع عيسى عليه السلام
رفع الله -عزَّ وجل- نبيَّه الكريم عيسى-عليه السلام- إلى السَّماء عند الله لحمايته من كيد قومه، وأخبرنا بذلك في كتابه العزيز: (إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، وقد كان عمره وقت الرَّفع إلى السَّماء ثلاث وثلاثين عاماً أو أربع وثلاثين عاماً، وقد حاول قوم عيسى-عليه السلام- قتله غيلةً وهذا هو السَّبب الرَّئيس لرفعه إلى السَّماء؛ لكي يردِّ الله -تعالى- مكرهم عليهم، فشبَّه لهم أحداً يشبه عيسى -عليه السلام- فقتلوه وصلبوه ظنَّاً منهم أنَّهم قتلوا نبيَّهم، وقد رفعه الله -تبارك وتعالى- تشريفاً له وتكريماً من أن يقتله اليهود، وسيعود آخر الزَّمان لإحقاق الحقِّ، وليؤكِّد بطلان تحريفهم وما ينسبون إليه وهو بريء منه. والقصة بدأت عندما ذهبوا إلى بيته بنيَّة قتله وخرجوا في جماعةٍ وكان قد شبَّه الله -تعالى- أحدهم بشكله فظنوا أنَّه عيسى وقاموا بقتله ولكنَّ الحقيقة أنَّهم ما قتلوه ولا صلبوه، وكما تمَّ ذكره سابقاً أنَّ النبيَّ عيسى-عليه السلام- قد رُفِعَ إلى السَّماء ولم يمت كما يقول البعض، ودليل ذلك قوله -تعالى-:(بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا* وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)، أي سوف يؤمن أهل الكتاب بنبوَّة عيسى قبل موته، وموته لم يقع إلى الآن إذاً هذا ما سيحصل بالمستقبل. وقوله -تعالى-:(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ)، هنا الحديث عن عيسى-عليه السلام- وقد قُرن بعلامات السَّاعة؛ فيكون خروجه من علامات السَّاعة أو قبل قيامها، أمَّا في إثبات عدم موته ورفعه -عليه السلام- إلى السَّماء؛ الدَّليل الثَّالث من القرآن الكريم هو قوله -تعالى-:(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، الكلام في المهد هذا يعد من العادات الخارقة، فما وجه التَّشبيه بين الكلام في المهد وهو معجزة وبين الكلام في الكهولة وهو أمرٌ عاديٌ إلَّا أنَّه قد حدث في ظروف استثنائيَّة؛ وهو كلامه بعد نزوله وعيشه على الأرض حتى يصل إلى الكهولة.
وفيما يتعلق بمكر بني إسرائيل بعيسى ومكر الله -تعالى- بهم؛ فقد حدث ذلك عندما خرج عيسى-عليه السلام- وأمُّه وعاد إلى قومه برفقة الحواريين ليدعوهم إلى عبادة الله وترك ما يصنعون، فهمُّوا إليه يريدون قتله، فحدث التَّدخل الإلهي -وهذا هو المقصود بمكر الله تعالى بهم-، وكان الجزاء استدراجهم بغتةً دون شعور منهم، وأمرالله -تعالى- جبريل الذي كان لا يفارق عيسى-عليه السلام- أن يدخل بيتاً، وما أن دخله حتى أخرجه من الجهة الأخرى، ووقع الشَّبه على غيره فقتلوا الشَّبيه وصلبوه، غير أنَّ من وقع عليه الشَّبه هو ممَّن نافق اليهود ودلَّهم على مكان الحواريين وعيسى فكان ذلك عقابه، وقد سلَّط الله -تعالى- ملك الرُّوم على ملك اليهود الذي كان من رعيَّته وأنقذ الحواريين من يد اليهود، وأنزل المصلوب وأكرم الخشب الذي صلب عليه. لقد كان بنو اسرائيل على مرِّ الزمان وتبدل الأنبياء عليهم متسببين للفتن وخارجين عن طريق الله تعالى، حتى سولت لهم نفوسهم رفض الدعوة إلى الله تعالى لقتل الأنبياء، وهذا ما حدث مع نبي الله عيسى، ولم يكتفوا بالتكذيب أو الشطوط عن طريق الله؛ بل حاولوا قتل عيسى عليه السلام، إلا أن الله رد مكرهم عليهم، وحفظ نبيه إلى يوم معلوم لديه، ورفعه عنده حتى يأتي أمراً كان مفعولاً.