(أبو الأنبياء، وخليلُ الرحمن، باني بيتِ الله الحرام، من أذّنَ بالحج، الصابرُ على الامتحانات، المستسلمُ لأوامرِ الله، أبو الضيفان..) هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعل الله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل.
سيرة النبي إبراهيم عليه السلام :
من هو ابراهيم عليه السلام ؟
استمرَ صراعُ الإيمانِ والكفرِ، فبعدَ هلاكِ قومِ ثمود رجعَ الإيمانُ ولكنّ الكفرَ سرعانَ ما عادَ إلى الجزيرةِ، فأرسلَ الله نبيًّا من أوليّ العزمِ منَ الرُسل، أبو الأنبياءِ إبراهيم عليه السلام بن تارخ ويلقّب بـ (آزر) لأنهُ كان يُساعد قومهُ، وهو من سُلالةِ سام بن نوح عليه السلام، وذكَرت قصةُ إبراهيم عليه السلام في كتابِ الله في (73) موضع و(25) سورة.
أكرمَ اللهُ سبحانهُ وتعالى إبراهيمَ عليهِ السلام وبالغَ في إكرامِه حتى سُمّي (خليلَ الرحمن)، والخلّة: امتلاءُ القلبِ بالحبّ، كان شابًّا عمرهُ في هذهِ المرحلة (16) سنة، فَفكر كيفَ يقضي على أصلِ الشرّ؟! فهددَ قومهُ بكسرِ الأصنام، وكان ينتظِر يومًا لا يكون عندَ الأصنامِ أحد.
بعدَ هزيمةِ قومِ بابل بالحُجة والبرهان أمامَ إبراهيم عليهِ السلام، لجأوا إلى البطشِ والتنكيلِ منطق الطُغاة فأرادوا إحراقهُ بالنارِ، فعمدوا إلى أرضٍ صخريّة صمّاء أحاطوها بالحجارةِ، وجعلَ الناسَ يجمعون الأخشابَ فيها حتى صارت كالبُنيان المُرتفع فأشعلُوها بالنار،
ثم جاؤوا بالمَنجنيق فوضعوا إبراهيم عليهِ السلام في كفّته وقّيدوه، وهو يَدعو دعاء المُضطر المُحتاج «حسبنا الله ونعم الوكيل».
وفي روايةٍ أنّ جبريل جاءَ إبراهيم فقال: هلّ لكَ مِن حاجة؟ قال: (أمّا إليكَ فلا، وأمّا إلى الله فَنعم)، كما أنّ مَلك المطر استأذنَ أنْ يُطفئ النار، ولكنّ أمر الله كانَ أعجب {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، قال ابن عباس: لو لمْ يقُل الله وسلامًا لآذاهُ البرد،
وكانت هذهِ المعجزة درسًا للمؤمنين: النارُ لا تحرق إلا بأمرِ الله، والسكينُ لا تقطعُ إلا بأمرِه، وكل المخلوقات ليسَ فيها قدرة بِذاتها وإنّما قُدرتها بيد الله، هو الذي يُعطيها وهو الذي يَنزعها.
سقطَ إبراهيمُ عليهِ السلام في النار ولمْ تشتعل ثيابُه، وإنّما احترقَ الحبلُ الذي قُيّد به، ووقفَ الناسُ ينتظرونَ انطفاءَ النار، وهنا كانتِ المفاجأة: إبراهيم وسطَ النارِ مطمئنٌ لا يحترق ثمّ خرجَ منها أمامهُم لم يصبهُ أذى، رغمَ هذه المعجزة البيّنة لم يؤمن إلا لوط عليهِ السلام
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، عزمَ إبراهيم عليهِ السلام على الهجرةِ من بابل بعدَ هذا التكذيبِ للآيات الواضحات.
قصة سيدنا إبراهيم مع النمرود
سمِع بخبرِ إبراهيم عليه السلام -رجلٌ سقطَ في النار ولمْ يحترق- ملكُ ذلك الزمان “النمرود”، وكان يحكمُ معظمَ الأرض ففي رواية أنهُ: (ملكَ الأرضَ مشرِقها ومغرِبها أربعةُ نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بُختنصر ونمرود بن كنعان، وسيملِكها خامسٍ من هذه الأمة).
طلبَ النمرود استدعاء إبراهيم ومقابلته، وأخذ يُجادلُه في المُلك والقُدرة، فذكر لهُ إبراهيم عليه السلام قدرةَ الله على الخلقِ والموت، فجاءَ النمرودُ برجُلين منَ السجن فأمرَ أن يُطلق الأول ويُقتلَ الثاني، فما أرادَ إبراهيمُ أن يبين لهُ أصلَ ويجادلَ نظرتهُ القاصرة في هذهِ المسألة،
تركَ إبراهيمُ عليهِ السلام العراقَ بعد لقائهِ النمرودَ، وهاجرَ إلى الشامِ مع لوط واستقرّ في منطقةِ “حرّان”، بعد أنْ تزوّج “سارّة” ابنة عمه “آرام”، التي كانت أجملَ نساءِ العالمين بعدَ حواء عليهما السلام،
كان أهل حرّان يعبدونَ النجوم، فكشفَ الله على بصيرةِ إبراهيم فرأى الكواكبَ والنجومَ والمجرّات فازداد يقينه بالله، ثم أراد أن يدعو قومَ حرّان للإيمان فخرجَ معهُم أثناءَ توجههم للعبادة.
أوتيَ إبراهيم عليهِ السلام حجةٌ قويّة، وتنوعتَ أساليبهُ في الدعوةِ إلى الله، وهنا اِتبعَ أسلوبَ التدرجِ والمجاراة: فرأى كوكبَ الزُهرة فاعتبرهُ ربًّا ثمّ لما جاءَ الفجر غاب، فجعلَ يُفتشُ ويسألهُم عنه،
وفي اليومِ التالي اختار القمر فهو أكبر وأجمل، فلما غاب أظهرَ حيرة وضياعًا فيمن يختار، ثم أرادَ ربّا يكون معهُ في النهار فاختار الشمس فلما غابت، دعاهُم لعبادةِ الله الخالقِ لكلِ ما في الأفلاك وأقام عليهم الحُجة
أصرّ قومُ حرّان على عبادةِ الكواكبِ والنجوم، فخرجَ إبراهيمُ عليه السلام إلى مصر، سمعَ ملكُ مصر بقدومِ رجلٍ معه امرأة هي أجملُ النساء فطمعَ بها،
فأرسلَ جندهُ ليأتوه بها وأمرهُم أن يقتلوا الرجلَ الذي معها إنْ كان زوجها، فلما وصلوا سألوا إبراهيمَ عليه السلام فعرفَ قصدهُم وأجابهُم أنهُ أخوها -يقصدُ أخوّة الإيمان-، أخذ الجنودُ “سارّة” إلى ملك مصر.
لجأت سارّة إلى الله سبحانه بدعاء المرأةِ العفيفة فقالت: (اللهمّ إنْ كنتَ تعلم أنّي قد آمنت بكَ وبرسولك، وأحصنتُ فرجي إلا على زوجي، فلا تُسلّط عليّ هذا الفاجر)،
فلما أرادَ أن يمدّ يده إليها شُلّت يده، فارتعدَ خائفًا، وطلبَ منها أن تُطلقه وإلا أمرَ بقتلها، فدعت المولى فعادت يدهُ صحيحة،
ثم أراد أن يمسّها بسوء فشُلت يدهُ مرة أخرى، وفي المرة الثالثة وعدها أنْ يُطلقها وأمرَ الجنود أن يخرجوها وقال: (ما أدخلتُم عليّ إلا شيطانًا)، فخرجت مع إبراهيم من مصر بعد أن أكرمها الملك بالهدايا، وأعطاها جارية تخدمها اسمها “هاجر”.
زواج إبراهيم عليه السلام من هاجر
سكن إبراهيمُ وسارّة في فَلسطين وتقدمت السنون بهم، ولم يرزقهما الله تعالى بولد فأهدت سارّة لإبراهيم جاريتها هاجر فتزوّجها، ومنها رُزق إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل عليه السلام وعمره (86) سنة، أحسّت سارّة بالغيرةِ من هاجر بعد أنْ صارَ لها ولدٌ من زوجها، ولحكمةٍ أرادها الله تعالى أمرهُ أن يأخذَ زوجتهُ هاجر وابنه.
الهجرة إلى مكة
انطلقَ إبراهيم عليه السلام من فلسطين إلى أن وصلَ إلى مكة، حينها كانت واديًا خاليًا لا زرعَ فيه ولا ماء، في هذا المكان المُوحش تركَ إبراهيمُ زوجتهُ هاجرَ وابنه إسماعيل، وقفلَ راجعًا إلى فلسطين فصرخت هاجر واستغاثت لكنّ إبراهيمَ لم يلتفت، هنا انتبهت هاجر وقالت:
(يا إبراهيم، آلله أمرك بذلك؟! قال: بلى، قالت: إذن لن يضيّعنا)، نعم الله لن يضيّعنا إذا إلتزمنا أمرهُ، الله لن يُضيّعنا شعارُ حياة.
قصة الصفا والمروة وماء زمزم
مرّ الوقتُ سريعًا على هاجر وابنها ثم نفذ الزاد وجفّ حليبها، ثم قامت تبحثُ عن مُغيث فتوجّهت إلى أقربِ تلٍ منها وهو “الصفا”، نظرت ولم تجد مُغيث ثم رأت تلّ المروة فتوجهت لهُ وفي بطنِ الوادي هرّولت ولم تجد عليهِ من مُغيث، ثم عَادت إلى الصفا ومنهُ إلى المروة وهكذا حتى أتمّت 7 أشواط،
ونحن نسعى اليوم بين الصفا والمروة تخليدًا لهذهِ الرحلة التي هي تعبيرٌ عن رحمةِ الأم بولدها، تخليد الأم والأمومة صارَ في ديننا شعيرة نتعبّد الله بها. جبريل وبئر زمزم
بعد أنْ أتمّت هاجر شوطَها السابع بين الصفا والمروة، جاءَ جبريلُ عليهِ السلام وضربَ الأرضَ عندَ قدمِ إسماعيل، أحسّت هاجر بأمرٍ ما عند ابنها فهرولت تجاهه، ووجدت الماءَ ينبعُ عندَ قدمِيه، جعلت هاجر تجمعُ الماء وتحيطهُ بالتراب وهي تقول: زم زم، فسُميت لذلك (زمزم).
قبيلة جرهم
كانت قبيلة جُرهم تقطعُ الصحراءَ باحثةً عن أماكنَ تستقرُ بها بعدَ أنْ اِنهار سدّ مأرب، فمروا بوادي “بكّة” -هكذا كانت اسم “مكة”- فوجدوا الطيورَ تحوم، فأرسلوا من يَتطلعُ لهُم فأخبرَهُم أنهُ وجدَ امرأةً مع طفلها حولَ ماء، تعجّبوا وقدموا إلى هاجر فاستأذنُوها أن يقيموا عندَ الماء مُقابل أجرٍ يُقدّموه لها فأذِنت لهم.
هناكَ نشأت مكة كمدينةٍ بحكمةِ الله، ونشأ إسماعيل عليهِ السلام بينَ أفرادِ قبيلةِ جُرهم العربية الأصيلة، وتعلم منهم الفصاحة العربية حتى صار أفصحهم، وجاء العربُ المستعربة الذين هُم ذريّة إسماعيل عليه السلام.
قصة ذبح سيدنا اسماعيل
كان إبراهيمُ عليه السلام يزورُ هاجر وإسماعيل في كلّ عام مرة أو مرتين، وفي إحدى هذهِ الزيارات أرى الله سبحانهُ وتعالى إبراهيم في المنام أنّهُ يذبحُ ابنه إسماعيل، مشى الأبُ مع ابنهِ وأخبرهُ بحقيقةِ ما جرى معه، معلمًا لنا منهج الصدق في الحديث مع الأبناء في أشدّ الامتحانات التي قد يتعرّضُ لها بشر
استسلمَ الأبُ والابن لأمرِ الله تعالى، ووضعَ إبراهيمُ جبهةَ ابنهِ وأخذَ السكينَ وجرّها على رقبةِ ابنه، ولكنّ النجاحَ في الامتحان قد تم فلا معنى للحم والدم، ودرسٌ آخر نتعلّمه هو أنّ السكين لا تقطع إلا بأمر الله كما أنّ النار لا تحرقُ إلا بأمرِ الله، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (104) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (105) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
نجح إبراهيم وإسماعيل في الامتحان العظيم، أبٌ يُطلب منه في منام أنْ يقتل ابنه الذي رُزق به على كبر سنّه، وجَاء الفداء بكبشٍ جُعل “الأضحية” سُنة لنا كل عام {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
بشرى بالنبي اسحاق
اشتهرَ إبراهيم عليهِ السلام بكرمهِ فكانَ لا يأكلُ إلا مع ضيف، حتى لُقّب بـ (أبي الضيفان)، وفي ذات يوم جاءهُ شباب فدعاهُم وقدّم لهم عِجلًا مشويًّا، فلم يأكلوا فأنكر فعلهم؛
فهُم غريبونَ عن الديار. وليسَ عليهم آثار السفر. ولمْ يأكلوا الطعام.
هنا أخبروهُ أنهُم رسلُ الله سبحانهِ إلى قوم لوط، هنا سمعت “سارّة” بخبر هلاك قومِ لوط الفاسدين فَضحكت، فزفوا لها البشرى: (أنها ستلدُ، وسيكون ابنها إسحاق نبيًّا، وأنها سترى حفيدهُ يعقوب، وأنّ يعقوب سيكون نبيًّا)، تعجبت أن تلد وهي عقيم وزوجها شيخ هرم ولكن الله على كل شيء قدير
توالت البشارات على إبراهيم عليه السلام، فجاءته بشارة التكليف ببناء بيت الله الحرام، فانطلقَ من فلسطين إلى مكة المكرمة، فلما وصلَ أخبرَ ولدهُ إسماعيل فكانَ لهُ معينًا، يقول الله تعلى:
كان رسول الله ﷺ يقول: «أنا دعوةُ أبي إبراهيم»، ثم أنزلَ الله حجرًا من الجنة جعلهُ في ركنها، ثم أمرَ الله إبراهيم عليه السلام أنْ يدعوا الناس إلى الحج إلى بيتِ الله الحرام، فتعّجب كيف يستطيع؟! ولكن على العبد الاستجابة لأمر سيّده، فصعد إبراهيم إلى جبل الرحمة ونادى بأعلى صوتِه وتولى المولى سبحانهُ إيصاله للناس، فجاؤوا من كل فجّ عميق.
قصة سيدنا ابراهيم واحياء الطير
في ذات يوم سألَ إبراهيم عليه السلام ربّه أنْ يُريه كيف يحيي الموتى، فقد أرادَ أنْ ينتقل إيمانه من علم اليقين إلى عين اليقين، فأمرَ الله أن يأتي بأربعة طيور فذبحها وأبقى الرؤوس عنده، ثم عجنَ أجسامها معًا ووضع جزء منها على كل جبل، ثم دعاها فتشكلت الأجسام وجاء كل طير إليه فأخذ رأسه وطار
وصلَ إبراهيم عليه السلام لأعلى الدرجات عند الله تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، واتخذه الله خليلًا {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، فهو خليل الرحمن وباني الكعبة ومن بدأ بالحج، ووصفه الله بأنه كان أمّة وحدة